فتدُّبر القرآن والحديث أصل لاستنباط العلوم منهما ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )
( رُبّ مبلغ أوعي من سامع ) والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كبيرا , ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها )
قال ابن عباس رضي الله عنه : ( أنزل من السماء ماء ) قال : قرآنا ( فسالت أودية بقدرها ) قال : الأودية : قلوب العباد ) اهـ تفسير القرطبي 9/259
وقال ابن كثير 2/668 في تفسير ( فسالت أودية بقدرها ) : ( هو إشارة إلى القلوب وتفاوتها فمنها ما يسع علما كثيرا ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ) اهـ
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 13/245 : ( لا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين - بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه , واتّباعهم ما يحبه - ما لا يفتح به على غيرهم وهذا كما قال عليٌّ : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه , وفى الأثر : من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم , وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع ) اهـ
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين 1/354 : ( والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين , ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك , ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره ) اهـ
وهذا مقال موجز عن التفسير الإشاري , وقد جعلته في مباحث :
المبحث الأول : معنى التفسير الإشاري وأمثلته
المبحث الثاني : حكم التفسير الإشاري وأقوال أهل العلم فيه
المبحث الثالث : الفرق بين التفسير الإشاري والتفسير الباطني
المبحث الرابع : شروط قبول التفسير الإشاري
المبحث الخامس : أنواع تلك الإشارات
المبحث السادس : أهل الإشارة
المبحث السابع : ذكر بعض التفاسير التي تهتم بالتفسير الإشاري........
المبحث الأول
معنى التفسير الإشاري وأمثلته
التفسير الإشاري :
هو تفسير القرآن بغير ظاهره لإشارة تظهر لأرباب الصفاء , مع عدم إبطال الظاهر , قال الزرقاني :
( التفسير الإشاري : هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا ) اهـ / مناهل العرفان للزرقاني 2/56
وقال الصابوني : ( التفسير الإشاري : هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نوَّر الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم ، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة ، بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني ، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة ) اهـ
وانظر التبيان في علوم القرآن للصابوني ص191
ومثل ذلك يجري على الحديث النبوي الشريف أيضا كما سيأتي عن الأئمة , وبالمثال يتضح المقال
أمثله للتفسير الإشاري :
- قوله تعالى ( لينفق ذو سعة من سعته ... ) فالآية في نفقة الزوجة , لكن أرباب السلوك يرون فيها إشارة إلى أن الواصل يرشد إلى الله على قدر ما وهبه الله من المعرفة , والسالك يرشد أيضا لكن على قدره , قال ابن عطاء الله في الحكم : (لينفق ذو سعة من سعته) .. الواصلون إليه
( ومن قدر عليه رزقه ) .. السائرون إليه ) اهـ ص 47 مع شرح ابن عجيبة
- قوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) فالآية في مصارف الزكاة , لكن أرباب السلوك يرون فيها إشارة إلى أن مواهب الله على القلوب لا تكون إلا بتحقيق الفقر والمسكنة لله تعالى قال ابن عجيبة في شرح الحكم ص 48 :
( إقطع عنك المادة وافتقر إلى الله تفيض عليك المواهب من الله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) إن أردت بسط المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك ) اهـ وأصل الكلام في الحكم
- قوله : ( لا تدخل الملائكة بيتا في كلب أو صورة ) فالحديث في منع الكلب والصورة الملائكةَ من دخول البيت , لكن أرباب السلوك يرون فيه إشارة إلى أن معرفة الله لا تدخل قلبا امتلأ بكلاب الشهوة وانطبع بصور الأكوان ,
قال ابن القيم في المدارج 2/406 : ( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول في قول النبي : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ) إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت , فكيف تلج معرفة الله عز وجل ، ومحبته وحلاوة ذكره ، والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها ؟ ) اهـ
- وقبله قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين 1/49 :
( ولذلك قال : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ) , والقلب بيتٌ هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم , والصفات الرديئة مثل والغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة , فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة ) اهـ
- قوله ( لا صلاة بغير طهور ) فالحديث في عدم صحة الصلاة بغير طهارة الظاهر لكن أهل السلوك يرون فيه إشارة إلى أن عدم طهارة الباطن مانعة من قبول الصلاة من باب أولى
قال ابن القيم في المدارج 2/406 : ( طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها , فإذا أخل بها كانت فاسدة , فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه ؟ فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء ؟ وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ) اهـ
- والأمثلة على ذلك كثيرة جدا تراجع في مظانها من كتب التفسير الإشاري وكتب السلوك ,
وستأتي أمثلة أخرى على ذلك إن شاء الله ضمن أقوال العلماء الآتية .........(مـــــــنقول) يتبع زوصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم